قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قَصرها على تطبيق الحدود العقابية بإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم، حيث إن تطبيق الشريعة له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نَصف واقعاً ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيث إن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإٍسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهم بدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن هذه البلاد قد خرجت عن ربقة الإٍسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمة تطبيق الشريعة كلمة حادثة.
وهناك حقائق يجب معرفتها:
1 - أن الشريعة تعني ما يتعلق بالعقائد والرؤية الكلية من أن هذا الكون مخلوق لخالق، وأن الإنسان مكلف بأحكام شرعية تصف أفعاله، وأن هذا التكليف قد نشأ من قبيل الوحي، وأن الله أرسل به الرسل وأنزل الكتب، ويوم آخر للحساب وللثواب والعقاب، كما أنها تشتمل على الفقه الذي يضبط حركة السلوك الفردي والجماعي والاجتماعي، وتشتمل أيضا على منظومة من الأخلاق وطرق التربية ومناهج التفكير والتعامل مع الوحي قرآناً وسنة، ومع الواقع مهما تغير أو تبدل أو تعقد.
2 - قضية الحدود تشتمل على جانبين: الجانب الأول هو الاعتقاد بأحقية هذا النظام العقابي في ردع الإجرام، وفي تأكيد إثم تلك الذنوب ومدى فظاعتها وتأثيرها السيئ على الاجتماع البشري ورفضها بجميع صورها نفسيا لدى البشر، وأن هذا النظام العقابي لا يشتمل على ظلم في نفسه ولا على عنف في ذاته، والجانب الآخر هو أن الشرع قد وضع شروطاً لتطبيق هذه الحدود، كما أنه قد وضع أوصافاً وأحوالاً لتعليقها أو إيقافها، وعند عدم توفر تلك الشروط أو هذه الأوصاف والأحوال فإن تطبيق الحدود مع ذلك الفقد يعد خروجاً عن الشريعة.
3 - المتأمل في النصوص الشرعية يجد أن الشرع لم يجعل الحدود لغرض الانتقام، بل لردع الجريمة قبل وقوعها، ويرى أيضاً أن الشرع لا يتشوف لإقامتها بقدر ما يتشوف للعفو والصفح والستر عليها. والنصوص في هذا كثيرة لا تتناهى.
4 - لمدة نحو ألف سنة لم تقم الحدود في بلد مثل مصر، وذلك لعدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقا معينة للإثبات، والتي نصت على إمكانية العودة في الإقرار، والتي شملت ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" .. وقول عمر بن عبد العزيز: "لأن أخطئ في العفو ألف مرة خير من أن أخطئ في العقوبة".
5 - قد يوصف العصر بصفات تجعل الاستثناء مطبقاً بصورة عامة، في حين أن الاستثناء بطبيعته يجب أن يطبق بصورة قاصرة عليه، من ذلك وصف العصر بأنه عصر ضرورة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شبهة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر فتنة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر جهالة، وهذه الأوصاف تؤثر في الحكم الشرعي، فالضرورة تبيح المحظور، حتى لو عمت واستمرت، ولذلك أجازوا الدفن في الفساقي المصرية مع مخالفتها الشريعة، والشبهة تجيز إيقاف الحد كما صنع عمر بن الخطاب في عام الرمادة حيث عمت الشبهة بحيث فٌقد الشرط الشرعي لإقامة الحد، والإمام جعفر الصادق والكرخي وغيرهما أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهر لإطباقهن على عدم الحجاب حتى صار غض البصر متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، ونص الإمام الجويني في كتابه الغياثي على أحوال عصر الجهالة وفصل الأمر تفصيلاً عند فقد المجتهد ثم العالم الشرعي ثم المصادر الشرعية، فماذا يفعل الناس؟
ويتصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم -كالرازي في المحصول- بالنسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحل في الحكم، وهو تعبير أدق؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكام المستقرة، وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله، فالأمر بالوضوء جعل غسل اليد إلى المرفقين من أركانه فإذا قطعت اليد تعذر التطبيق أو استحال، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النقدين بمفهومهما الشرعي من ذهب أو فضة ومثل ذلك كثير.
6 - من أجل الوصول إلى تنفيذ حكم الشرع ومراد الله سبحانه منه والوصول إلى طاعة الله ورسوله، يجب علينا أن ندرك الواقع، وفي حديث ابن حبان في صحيحه في موعظة آل داود أن يكون المؤمن مدركا لشأنه، عالماً بزمانه.
ومن هنا فإن الفقهاء نصوا على أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على العرف (نص المادة 90 من مجلة الأحكام العدلية)، وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين، فتغيرت الأحكام بتغير المكان، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات والمأخوذة من قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ...) تجعل الشأن يتغير بتغير الأحوال، وكذلك تتغير هذه الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباري حيث لا نفس له ناطقة.
وهذه الجهات الأربع وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال هي التي نص عليها القرافي كجهات للتغير يجب مراعاتها عند إيقاع الأحكام على الواقع.
ومعلوم أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور: منها: كم الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة التي جعلت البشر يعيشون وكأنهم في قرية واحدة، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مضطردة لا تنقص أبدا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا. ومنها كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه أو باعتباره جزءاً من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائما في وسط هذه الحالة التي ذكرناها.
وسمات العصر هذه ونحوها غيرت كثيراً من المفاهيم، كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة، ومفهوم السياسة الشرعية، فلا بد من إدراك ذلك كله حتى لا تتفلت منا مقاصد الشريعة العليا.
تجارب تطبيق الحدود
7 - يمكن عرض تجارب الدول الإسلامية المعاصرة مع قضية تطبيق الحدود:
أ - فنجد أن السعودية تطبق الحدود عن طريق القضاء الشرعي مباشرة من غير نصوص قانونية مصوغة في صورة قانون للعقوبات الجنائية، والتطبيق السعودي للحدود مستقر وليس هناك أي دعوة أو توجه مؤثر لإلغائها أو إيقافها أو تعليقها. وإن كانت هناك بعض النداءات من معارضي النظام السياسي تدعو إلى ضبط الإجراءات وتصف النظام الحالي بعدم العدالة وباعتدائه على حقوق الإنسان.
ب - حالة باكستان والسودان وإحدى ولايات نيجيريا وإحدى ولايات ماليزيا وإيران والتي نصت قوانينها على الحدود الشرعية وتم الإيقاف الفعلي لها من ناحية الواقع في الباكستان، وتم تعليقها بعد عهد النميري في السودان، وتم تعليقها أيضاً في إيران وماليزيا، وطبقت في ولاية نيجيريا بصورة غاية في الجزئية، ويشيع في كل هذه البلدان العمل بالتعزير بدلاً من تطبيق الحد، فيما عدا الجرائم التي تستوجب الإعدام.
جـ- بقية الدول الإسلامية والتي يبلغ عددها 56 دولة من مجموع 196 دولة في العالم سكتت في قوانينها عن قضية الحدود، وكانت وجهة النظر في هذا الشأن أن عصرنا عصر شبهة عامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، كما أن الشهود المعتبرين شرعاً لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد قد فقدوا من زمن بعيد، فيورد التنوخي في كتابه "نشوار المحاضرة": أن القاضي كان يدخل المحلة أو القرية فيجد فيها أربعين شاهدا ممن نرضى من الشهداء عدالة وضبطاً، وأنه الآن - أي في عصره - يدخل القاضي البلدة فلا يجد فيها إلا الشاهد أو الشاهدين. وأن عصرنا بصفة عامة يمكن أن يوصف بفقد الشهادة أيضاً.
وأن التفتيش للوصول إلى الحقيقة التي تؤدي إلى إقامة الحد ليس من منهاج الشريعة، فإن ماعزاً أتى يقر على نفسه فأشاح النبي بوجهه أربع مرات، ثم أحاله على أهله لعلهم يشهدون بقلة عقله أو جنونه، ثم أوجد له المخارج، ولما رجع في إقراره أثناء إقامة الحد قال رسول الله لعمر: هلا تركتموه؟. وأخذ العلماء من هذا جواز الرجوع عن الإقرار ما دام في حق من حقوق الله وليس بشأن حق من حقوق البشر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن الطرف الآخر للجريمة، وهي المرأة، ولم يفتش عنها حتى كنوع من أعمال استكمال التحقيق. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر وعثمان: أن السارق كان يؤتى به إليهم، فيقول له الإمام: أسرقت؟ قال: لا!.
فالنص على الحدود -كما ذكرنا- يفيد أٍساساً: تعظيم الإثم الذي جُعل الحد بإزائه، وأنه من الكبائر والقبائح التي تستوجب هذا العقاب العظيم، ويؤدي ذلك إلى ردع الناس عن هذه الجرائم على حد قوله تعالى: (ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون)، ويكمل الحد في هذا الشأن: الضبط الاجتماعي الذي يتولد من الثقافة السائدة لدى الكافة باستعظام هذه الآثام ونبذ من اشتهر بها أو أعلنها أو تفاخر بفعلها. كما أن الشرع فتح باب التوبة، وأمر بالستر في نصوص عديدة من الكتاب السنة.
8 - ولقد ذكرنا ما ذكرناه إجابة على المبادرة، نرى أن هذه القضية بهذه الصورة ليست ملحة أصلاً، ولا هي في ترتيب أولوياتنا بالمسألة الأَََََولى، بل إن إثارتها الآن يضر ولا ينفع.